بدأ السباق الانتخابي مبكرا نحو انتخابات البرلمان والرئاسة في تونس المقررة في آخر هذا العام. سباق يبدو أنه مخيب للآمال الشعبية في تونس لأنه يعيد على الأرجح مرة أخرى المرشحين أنفسهم الى دائرة الاختيار الشعبي. فخمس سنوات منذ آخر انتخابات رئاسية وبرلمانية في تونس لم تكن كافية على ما يبدو لإنتاج شخصيات سياسية جديدة وفاعلة، بل بقي اللاعبون أنفسهم تقريبا من يسودون المشهد السياسي والاعلامي في ظل احباط وعزوف شعبي كبير عن السياسية، وتراجع ثقة أكبر في السياسيين والاعلام، فيما تزيد التحذيرات من احتمالات تدخلات أجنبية في المشهد السياسي قد ترتفع وتيرتها هذا العام خلال الحملات الانتخابية البرلمانية والرئاسية. فإلى أي مدى تكمن صحة التدخلات الأجنبية ودورها في المشهد السياسي التونسي؟
بعد مرور خمس سنوات تقريبا على وصول الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الى الحكم بطريقة ديمقراطية، يغيب تماما اليوم أي مرشح توافقي بديل له لأسباب كثيرة أهمها عدم حصول أي سياسي على توافق شعبي وحزبي كما حصده السبسي. الى ذلك فان الرجل التسعيني يعتبر من الرجالات المؤسسين لأولى الحكومات التونسية بعد الاستقلال عن فرنسا زمن الرئيس الراحل التونسي الحبيب بورقيبة. ولعل رمزيته كسياسي مخضرم عاصر أغلب مراحل تطور تونس الحديثة من أكسبته ثقة بين التونسيين ابان انتخابات 2014 التي ظفر بها على حساب منافسه الرئيس التونسي المؤقت الأسبق والمناضل الحقوقي المنصف المرزوقي.
الا أن الثقة والشعبية التي حصل عليها السبسي بسبب رمزية تاريخه السياسي واعتدال منهجه وتمسكه باحترام كيان الدولة يبدو أنها تراجعت[1] بشكل كبير اليوم بعد مرور 5 سنوات من حكمه في ظل وضع متأزم اقتصادي بشكل كبير وعدم تحقق جزء كبير من وعوده للشعب التونسي حين انتخابه في 2014.
فقد كسب السبسي التنافس الشرس ضد المرزوقي في 2014 بفضل أحداث وظروف اقليمية غير مسبوقة اتسمت بالمخاطر الأمنية العالية التي شكلها الارهاب والتوجس من اتساع نشاط المجموعات الاسلامية المتطرفة أو المتعاطفين معها، حيث قدم نفسه كضامن للأمان للتونسيين وهيبة الدولة المدنية ومحارب شرس للتطرف والارهاب وكصمام أمان يحول دون تحويل تونس الى “دولة دينية” بعد اكتساح الاسلاميين المتمثلين في حركة النهضة الانتخابات البرلمانية في 2011. كما يقدم السبسي رجل الدولة المخضرم نفسه كحامي للدولة العلمانية، وسعى جاهدا لطمأنة الشعب التونسي المثقف حول استمرار الحداثة في البلاد وعدم اختطافها من القادمين الجدد الى المشهد السياسي المتمثلين في أعضاء التيار الاسلامي الذي تحتضنه أحزاب كثيرة أبرزها حزب حركة النهضة الاسلامي.
وبفضل رفع شعار استمرار كيان الدولة المدنية والحفاظ على الحريات والديمقراطية، استمد حزب نداء تونس الذي يتزعمه السبسي شرعيته في الحكم خلال الخمس سنوات الأخيرة، الا أنه لم يتمكن من تقديم رؤية فعلية لتحقيق تطلعات التونسيين، وهو ما اضطره للقيام بتحالف مع حركة النهضة من أجل دفع مسيرة الاصلاح والتنمية. لكن بقي الخلاف الجوهري بين ايدولوجيتين مختلفتين لم تستطيعا الانصهار رغم اعلاء مبدأ الوحدة الوطنية. حيث ركزت مسيرة حزب السبسي على محاولة اقتباس السياسة البورقيبية ومحاكتها في المشهد السياسي والاقتصادي اليوم ولكنها فشلت في احداث نهضة اقتصادية بالتوازي مع دور الحكومة. وما ان اسقر الأمن وتقلص شبح الارهاب، التفتت الانظار الشعبية الى الانجازات المحققة وكانت الحصيلة خاوية، بينما صنفت أغلب القرارات كونها غير شعبية تزامنا مع اصلاحات قاسية فرضها الممولون الدوليون لقروض تونس تكلفتها تحملها الشعب وحده من خلال زيادة الحلول الضريبية.
وهنا زاد الانتباه الى حقيقة التدخل الأجنبي المتمثل في كبار مقرضي تونس على غرار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والقوى العظمى والاقليمية التي منحت إما قروضا أو مساعدات. فصندوق النقد يمول قروضا لتونس ناهزت 2.8 مليار دولار على دفعات مشترطة بانجاز إصلاحات مجدولة لتحسين الموازنة وتخفيف العجز كانت اغلبها ضريبية زادت من غلاء حياة المواطن البسيط مقلصة قدرة الدولة على خلق فرص وظيفية أو استيعاب البطالة، وأصبح مصير التنمية مرهون في مدى اذعان الحكومة لخارطة النقد الدولي والبنك الدولي من اجل استكمال حزمة القروض للبلاد. وكان الضامن في هذه القروض الولايات المتحدة على سبيل المثال[2]. في مقابل ذلك ارتفعت نسبة المديونية الخارجية لتونس لتسجل زيادة بنسبة 246 في المئة خلال 7 سنوات التي تلت الثورة وتقدر بنحو 24.5 مليار دولار[3] وتعد أكبر قيمة ديون خارجية في تاريخ البلاد.
ومع حكومة منتخبة ومستقرة نسبيا، تونس قد تكون أفضل حالا حسب رغبة شركاء تونس الدوليين. اذ أن هناك وعي متزايد بين الممولين الرئيسيين، ولا سيما الولايات المتحدة، بالحاجة إلى توفير مساعدة أجنبية مباشرة. وفي الواقع، التزمت واشنطن حتى الآن بمبلغ 300 مليون دولار[4] لدعم التحول الديمقراطي في تونس مع احترام الاستقرار السياسي والحكومة التمثيلية الخاضعة للمساءلة شرطا لازما للانتعاش الاقتصادي. وهذا يؤدي إلى حلقة مفرغة: الإصلاح السياسي والديمقراطية يعتمدان على بيئة اقتصادية مواتية، في المقابل يعتمد الانتعاش الاقتصادي على الاستقرار السياسي.
الا ان الخروج من هذه الحلقة المفرغة لا يزال يثار حوله جدل كبير بين السياسيين ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات. فبعضهم يؤيد انعاش الاقتصاد أولا والبعض الاخر يختار دعم استكمال الاصلاح السياسي أولا. ولم تتوافق كل الاطراف على ترتيب الاولويات الحقيقية للشعب التونسي بينما كثيرون يرون أن مدة تأخر تحقق تطلعات الشعب التونسي (خصوصا المطالب الاقتصادية والاجتماعية) تدفع بالكثيرين اليوم الى تجاوز مرحلة الاصلاح السياسي وتقديم الانعاش الاقتصادي حتى لو كان بالاستعانة بالمنظومة السياسية القديمة والتي تحوم حولها شبه فساد يطال بالأساس يتعلق رموز النظام القديم الذين باتوا مقبولين شعبيا أكثر من منظومة الطبقة السياسية الحالية التي استنزف شرعيتها الجدل حول الاولويات بينما هي فاقدة لأدوات التغيير. وبقدر ابتعاد الطبقة السياسية أو الحكومة أو منظمات المجتمع المدني من أولويات قضايا الشعب خصوصا مطالب تحسين المقدرة الشرائية والتوظيف، فان كثيرين تقودهم العواطف الموهومة الى الحنين الى المنظومة القديمة بدعوى معرفتها وادراكها لواقع المواطن وقدرتها على انجاز تغيير طال انتظاره.
في تونس، يعتمد الاقتصاد بشكل كبير على الاستثمار الأجنبي والسياحة وكانت البلاد عانت من انكماش بنسبة 1.8 في المئة في2011، في حين ارتفع معدل البطالة من 14 إلى 19 في المئة. تفاقم البطالة، وتراجع احتياطيات العملات الأجنبية، والديون المتنامية كلها تسهم في هشاشة أي مكاسب “ثورية” . واستمر الأداء الاقتصادي على الرغم من بعض التحسن التجميلي ضعيفا[5] ومن المنتظر ان يستمر متعثرا حتى ولو قاد البلاد منتخبون يتمتعون بشعبية عالية. اذ تبقى الاشكالية في مدى علاقة النخبة السياسية المرنة بالدول المقرضة أو المانحة أو المستثمرة من الخارج وهي الداعم الاولي لارتفاع معدلات الاستثمار والنمو في ظل شلل ومحدودية الاستثمار الوطني المتعثر والمنهك.
ويبدو أن هناك رغبة حقيقية من جانب الحكومات الغربية لدعم اقتصادات مصر وتونس وليبيا، ولكن تسعى هذه الدول نحو إيجاد الوسائل الصحيحة للقيام بذلك[6]. وتعتبر أن سياسات الدعم الدولي لمصر وتونس وليبيا عاجلة وحتمية. وهنا يبرز التفريق بين المساعدة و التدخل بشروط. ودعم أي توجه؟
ويعتبر التدخل في الشؤون التونسية في ازدياد مع قيام بعض الأحزاب السياسية ببناء شبكاتها الخاصة مع السفارات الأجنبية. وباتت لقاءات عدد من السفراء في مقرات بعض الاحزاب الآن شائعة الحدوث. وفيما يوضح بعض ممثلي الأحزاب مواقفهم المعارضة للسياسة الخارجية لتونس، ويعبّرون عن بعض المواقف حتى قبل أن تعلن الدولة موقفها الرسمي مما يؤدي إلى إرباك المجتمع الدولي. ففي أزمة قطر مع دول مجلس التعاون الخليجي، على سبيل المثال، بينما تميل تونس للحياد يميل موقف حركة النهضة لدعم قطر[7].
يمكن فهم بعض اللبس في أعقاب الثورة التونسية عام 2011 لسياسات البلاد التي أثارت بعض المخاوف عند محاولة إقامة تحالفات عرضية. الا أن السياسة التونسية سرعان ما عادت الى مبادئ الدبلوماسية التي نهجتها قبل عقود على غرار الحياد الإيجابي، عدم التدخل، احترام الشرعية الدولية وأسبقية المصالح الوطنية[8]. ولاستفسار لبس التحالف بين حركة نداء تونس الحاكمة والعلمانية وحركة النهضة الاسلامية، صرح حافظ قائد السبسي نجل الرئيس السبسي زعيم نداء تونس، في مقابلة إن “التحالف مع الحزب الإسلامي كان في مصلحة تونس. لكن الحلف إشكالي في تطوير سياسة خارجية سليمة. اذ أن علاقات النهضة الخارجية لا تتوافق بالضرورة مع المواقف الرسمية للدولة، والمصالح الإيديولوجية بين الحركات الإسلامية تتجاوز الحدود[9]. وهذا ما يكشف عدم التوافق في السياسات بين نداء تونس وحركة النهضة لاختلافات الرؤى والمصالح والترابطات الخارجية.
تحذيرات بشأن التدخل السياسي
على الرغم من الحرص المستمر على رفض التدخل الأجنبي وبعض الانتقادات ضد ممارسة تطبيق السياسات الأوروبية، ينظر نشطاء المجتمع المدني التونسي إلى أوروبا على أنها تولي اهتماما حقيقيا بنجاح المرحلة الانتقالية التونسية. ومساعدتها على نطاق واسع[10].ومع ذلك، فإن معظم التونسيين يظهرون بعض الاحتياط بشأن التدخل الخارجي والشكوك تجاه حسن النية لدى الأطراف الدولية. وتبدو الخشية بدرجات متفاوتة ازاء تدخلات الولايات المتحدة أو دول الخليج، كما أن التشكك موجه أيضا إلى أوروبا[11].
وتقوم أوروبا بجهود لدعم التحول الديمقراطي التونسي من خلال دعم مباشر وغير مباشر لمنظمات المجتمع المدني والاحزاب. وإذا تم التعبير عن بعض التحذيرات بشأن التدخل السياسي، فان تنفيذ السياسة يخضع لإجراءات بيروقراطية جدا[12]. وبالتالي فانه لا يمكن ان يتم ادارة الشأن السياسي التونسي من الخارج بإصدار التوجيهات وانما قد يكون التدخل يأخذ شكل التوصيات او الدعم الخارجي لتوجهات حزب معين.
لكن يجدر النظر الى مزاعم تدخلات دول اقليمية في الشأن التونسي على غرار تركيا وايران ودول الخليج والجزائر. ولم تقم هذه القوى بالتصريح بالتأثير في الشأن التونسي الا ان المتابع للزيارات المتكررة لقادة هذه بعض هذه الدول لتونس أو مسؤوليها الرسميين بالإضافة الى الطفرة في العلاقات الاقتصادية بشكل غير مسبوق والتسهيلات التي تقدمها هذه الدول خصوصا في مسألة فتح أسواق عملها للتونسيين، يمكن استنتاج نوع من التدخل حتى وإن كان ايجابيا. لكن يبقى دراسة تأثير هذا التدخل الاقتصادي او السياسي وان كان لصالح التونسيين ولغرض تبادل المصالح المشتركة بين الدول. فبالنظر لتبعات العلاقات المتشابكة بين الدول الآنف ذكرها والناشطين السياسيين فانه من الملاحظ زيادة الفعاليات المشتركة بين احزاب تونسية وبعض الاحزاب الاخرى أو المنظمات أو الجمعيات في هذه الدول. الى ذلك يجب التوقف عند زيادة أعداد الأحزاب والجمعيات التونسية المدعومة بعضها بشكل علني او مبطن من منظمات خارجية حتى وان كانت مشروعة. في هذه الأثناء، كان التنافس الجيوسياسي بين دول الخليج يتردد صداه في تونس، وكثيراً ما جاء في شكل دعم مالي وغيره للأحزاب السياسية.[13]
وتجدر الاشارة الى أن الدراسة لا تزعم أن سيادة البلاد التونسية مخترقة او منقوصة أو هي تسمح بالتدخل الاجنبي في سيادتها وقراراتها واحزابها وسياساتها. لكن الدراسة تحقق في عدد من الملابسات والاحداث التي تناولتها تقارير دولية والتي يعتقد انها ان صحت يمكن أن تؤثر على المشهد السياسي في تونس وفي توجهات سياسييها، ويعتبرها البعض بانها مفصلية في تقديم الدعم السياسي أو الاقتصادي لبعض الشخصيات السياسية على حساب شخصيات اخرى. التدخل الخارجي قد يأخذ اشكالا مختلفة في الشأن التونسي ابرزها القروض والاستثمارات الخارجية والمنح والمساعدات الانسانية والمالية لبعض الجهات أو الاحزاب المجتمع المدني أو تسهيلات او تأييد من خلال تصريحات أو مواقف. كما يمكن ان تكون في شكل فروع لمنظمات او مؤسسات مثل مؤسسات اعلامية او مراكز ابحاث او سبر اراء.
عودة قوية متوقعة للمنظومة السياسية القديمة المدعومة
تبدو الترجيحات بان التغيير المرتقب في الطبقة السياسية التي ستفرز المرشحين للبرلمان والرئاسة نهاية العام الجاري سيكون الى الوراء بعودة متوقعة للنظام القديم بامتياز في الانتخابات التونسية المقبلة. عودة قد تزيد من تراجع مكتسبات الحقوق السياسية. حيث خفضت مؤسسة “فريدمهاوس” تصنيف الحقوق السياسية في تونس من 1 إلى 2 اذ شهدت اتجاهًا نزوليًا لأسباب مختلفة لعل آخرها التأجيل في إجراء الانتخابات البلدية الماضية في 2018 والضغط المتزايد على النظام السياسي من العناصر القوية في النظام السابق[14].
الا ان هذه العودة لعناصر النظام القديم للمشهد السياسي ستقابلها قوة حزبية وشعبية مضادة لكن قياس هذه القوة المضادة يعتمد على الوعود الانتخابية التي سيقدمها عناصر النظام القديم. وبالحديث عن التنافس الرئاسي المرتقب، فالى حد هذا اليوم ترجح المؤشرات أن ظروف الانتخابات المقبلة مغايرة تماما لظروف انتخابات 2014. فعلى سبيل المثال لم تعد المخاوف من الارهاب في الواجهة كما في السابق ولم تعد شماعة التخويف من الاسلاميين مجدية لكي يصدقها جمهور الناخبين. وبات من الضروري على المترشحين الى الرئاسة على غرار السبسي الذي أعلن حزبه رغبته في ترشيحه مجددا وهو في سن 93 عاما أن ينتج خطابا انتخابيا جديدا وهادفا وواقعيا، وأهم ما في الامر أن يكون الرجل لديه قدرة التغيير ومدعوم محليا ودوليا.
ولعل اعادة ترشيح السبسي مؤشر فشل ذريع لتجديد هوية حزب نداء تونس الحاكم الذي نشأ على اساس جبهة مضادة لهيمنة حركة النهضة الاسلامية على الحكم ومزاعم أسلمة الدولة التي حذر نداء تونس الشعب منها. وبإعلان حركة النهضة عن اعادة تجديد نفسها كحزب مدني وليس فئوي ديني، فقدت شعارات وأهداف حزب نداء تونس مصداقيتها وشرعيتها، وبات الحزب قاب قوسين أو أدنى من نادي مصالح بين رجال أعمال وسياسيين بعضهم من النظام القديم، سرعان ما تصدع وتعرض لانشقاقات كبيرة، وما تبقى من الحزب رمزية السبسي، وبذلك تمت اعادة ترشيح الرجل التسعيني حتى لا ينهار الحزب وتخلو الساحة لحركة النهضة كأكبر كتلة سياسية نيابية متماسكة، في انتظار القادم الجدي والحزب الوليد لرئيس الحكومة ” تحيا تونس” الذي لم يحمل الى حد الان هوية خاصة بل يثير اللغط والغموض حول اجندته لاختياره شعارا واسما يدل على علوية وشرعية تمثل الحزب الرمزي لكل التونسيين.
وعلى الرغم من انشقاق البعض من حزب نداء تونس الحاكم المدعوم من الرئيس ومن جهات اخرى كشفت تقارير ارتباطه بدعم خارجي من بعض الجهات، الا ان المنشقين وابرزهم مستشاره السياسي السابق ومدير حملته الانتخابية في 2014 محسن مرزوق لم يستطع هو أو غيره كسب الثقة الشعبية او الكاريزما التي يتمتع بها السبسي.
أما الرئيس المؤقت الأسبق المنصف المرزوقي والذي يقدم نفسه دائما كمناضل حقوق انسان خصوصا وانه معارض بامتياز للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وشغل منصب رئيس رابطة حقوق الانسان سابقا، وتم القبض عليه في عهد النظام السابق، فان امكانية عودة ترشيحه لنفسه بعد خسارته في الانتخابات السابقة يحمل دلالات كثيرة لعل أهمها انه يأتي للوقوف ضد مرشحين يصفهم مدعومين من الخارج ومراد فرضهم على السياسة التونسية ويقدم نفسه كذلك كرجل لا يخضع للأجندات الخارجية وانه يحارب الفساد والنظام السابق والمتسلقين الى المناصب بفضل دعم مالي محلي كان أو اجنبي. ويبدو ان خطابه يحاربه بشدة الاعلام التونسي الذي يزعم بعض الملاحظين أنه جزءا هاما منه موجه ومسيس.
وعلى الرغم من تأثر شعبيته وشعبية حزبه “المؤتمر من أجل الجمهورية” او الحزب الجديد “حراك تونس الارادة” الا ان فرص تقدمه في المنافسة تبقى قائمة خصوصا مع خلو الساحة لحد اليوم من منافسين اقوياء. الى ذلك تعالت الاصوات الشعبية وبيانات منظمات المجتمع المدني المشككة في أجندات بعض السياسيين وارتباطاتهم المحلية والخارجية.
ويبقى المرزوقي مستمرا في الحفاظ على شعارات خطابه السياسي المختزلة في محاربة الفساد ورفض التطبيع مع النظام السابق في العمل السياسي والاقتصادي ورفض التدخل الاجنبي في القرار التونسي، ويصنف بانه رجل يدافع عن أهداف الثورة التونسية التي تملص منها بعض السياسيين.
حركة النهضة مهتمة بإعادة انتاج نفسها اكثر من تقديم مرشح للرئاسة
يثير الانتشار السريع لشبكة فروع مقرات حزب حركة النهضة الاسلامية وتمددها في اغلب مدن وقرى الجمهورية التونسية غداة ثورة 2011 الكثير من الاستفهامات خصوصا حول القدرات المالية الحقيقة للحزب خصوصا بعد عودة غير مدروسة مسبقا من أعضاء الحركة للنشاط السياسي في تونس ابان احتجاجات 2011. كما بدى مستغربا قيام الحركة بتأسيس بنية تحتية قاعدية للعمل السياسي مثل المقرات والموظفين والانفاق على أنشطة وفعاليات ودورات تدريب لأعضائه ووسائل اعلام تدعمه في قوت قياسي مقارنة مع احزاب اخرى ظلت متعثرة في الانتشار. ويدفع رواج حركة النهضة بسرعة كالحزب الاول في تونس الى التساؤل : كيف لحزب كان مقموعا طيلة اكثر من 23 عاما ان يأسس شبكة كبيرة لتمثيله في كامل الجمهورية في وقت وجيز وقياسي؟ وهل كانت الاموال التي انفقها الحزب هي عبارة عن تبرعات من اعضائه أو رجال اعمال او هي منح داخلية وخارجية؟
تنامي القدرة المالية للحزب وان تعترف النهضة ان مواردها عبارة عن تبرعات اعضائها، فان حجم توسع النهضة في البلاد والأنشطة التي تنفق عليها قد يكون اكبر بكثير من ان تستوعبها اموال تبرعات اعضائه فقط.
الى ذلك فقد تكثفت دورات التدريب للمنتمين لحركة النهضة في تركيا على سبيل المثال. كما تقاربت مواقف النهضة بشكل كبير مع دول خليجية بعينها وبرز التعاون والتقارب في الحضور المكثف لقيادات النهضة في اغلب فعاليات التي تقيمها بعض السفارات الخليجية في تونس واحيانا يحضر قيادات النهضة وتغيب قيادات الدولة.
وعلى صعيد آخر بدى من الغريب نمو القوة الناعمة للنهضة في الميدان من خلال زيادة دعمها للقواعد الشبابية وتكوينهم. الا ان الأغرب ان القيام بفعاليات متواصلة على مستوى الجمهورية والتدخل لمساعدة فئات معينة من الشعب تتطلب تمويلات ضخمة لا يمكن لحزب ناشئ في تونس ما بعد بن علي ان تقوم بها في وقت سريع. اذ ان حزب الرئيس بن علي نفسه لم يستطع ابان اعتلائه الحكم وهو الحزب الوحيد الفاعل آنذاك ان يطور شبكة فروعه في الجمهورية وان يمول انشطته ويستقطب زيادة المنخرطين الا بعد مرور 10 سنوات تقريبا.
كما بدا مستغربا كثيرا تغيير شعار حركة النهضة السياسي من حركة ذات مرجعية اسلامية وتقدم نفسها على ذلك الى حزب سياسي مدني. واستثمرت الحركة كل ما يمكن من تصريحات وانشطة من اجل تغيير الصورة النمطية الشعبية حول حركة النهضة من أجل تسويق نفسها كحزب مدني وليس حركة اسلامية. ولعل ابرز سياسات التسويق للصورة الجديدة قرار الحركة انفتاحها على استقطاب مرشحين مستقلين من توجهات فكرية وايدلوجية مختلفة يسار ويمين. وكأن الحركة تريد ان تؤسس لشرعية شعبية جديدة لسياستها كحزب محافظ ومنفتح حتى يتسنى لها تقديم مرشح لها في المستقبل القريب لرئاسة البلاد او الحكومة ويكون مقبولا شعبيا ودوليا ولا يصنف ضمن الاسلاميين المنتقدين اقليميا ودوليا. كما قامت الحركة مرارا بنفي علاقتها بمرجعية جماعة الاخوان المسلمين وتصر على أن تقدم نفسها كحركة سياسية تونسية خالصة توجهاتها وافكارها ذات مرجعية اسلامية فقط لتنفتح اكثر على مرجعيات اخرى وتنخرط كحزب مدني، و لما لا يكون الحزب الاقوى والمتماسك كما هو الحال عليه اليوم.
وبقي التحدي الوحيد بعد التجديد في الشعار والهوية السياسية هو مدى قبول التونسي والعالم لحركة النهضة كحزب سياسي مدني ونسيان شعاره وهويته القديمة. وقد بدأت حركة النهضة تنجح في ذلك مع تفضيل سياسة عدم الظهور كثيرا في المحافل الاعلامية وعدم اعتماد وسيلة اعلامية لتسليط الضوء على نشاطاتها. واختارت العمل في صمت والاكتفاء بسياسة المواقف التي تبرز جدية النهضة في التحول الى حزب مدني خصوصا بعد التزامها الحياد والصمت وعدم التعليق الاعلامي على اكبر قضية طرحت على الشعب التونسي والتي تفاعل معها كثيرون والمتعلقة بقانون الميراث والمساواة بين المرأة والرجل وحقوق المثليين وكثير من القضايا التي لم تستفز النهضة ملتزمة الصمت بل التصويت في البرلمان على قانون المساواة في الميراث بين المرأة والرجل.
فهل يعتبر هذا تجديدا أم مناورة أم خيارا للاستقرار في المشهد السياسي وزيادة نيل قبول الشعب الى حين تمكن الحركة اكثر من دوائر صنع القرار خصوصا على مستوى الادارة.
مخاوف حقيقة حول رواج المال السياسي في الانتخابات التونسية المقبلة
تعتبر قوانين تمويل الحملات التي تهدف إلى منع المال من تحديد النتائج السياسية معقدة وغير واضحة في كثير من الأحيان، مما يجبر الأطراف في بعض الأحيان على الانحناء، إن لم يكن كسر القواعد من أجل القيام بحملة فعالة. وهذا يساهم في التوتر بين الأطراف السياسية. وقد وجد المعهد الجمهوري الدولي الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له، في تقييم انتخابات عام 2014، أن قوانين تمويل الحملات الملتبسة ساعدت في تسهيل شراء الأصوات “مع احتمال ضئيل من العقوبة[15]“.
وتبقى ظاهرة شراء الاصوات ليست حكرا على المشهد السياسي في تونس، بل طالت انتقادات لمثل هذه الظاهرة حتى في اعتى ديمقراطيات العالم لعل آخرها الانتخابات الامريكية وما حام حولها من تدخلات مشبوهة في تحويل ميول الناخبين. لكن بالنسبة لتونس تعد خطيرة لأن الديمقراطية التونسية ليست ناضجة كما ان الوعي الجمعي بالممارسة الانتخابية الحرة لم يتعزز بعد.
وفي حين أن النتائج الانتخابية هي نتيجة الاقتراع الشفاف، تتمتع الأوليغارشية الاقتصادية المحلية (نخبة رجال الاعمال) بدرجة عالية من التأثير على صنع السياسة، وخاصة على القضايا الاقتصادية. ففي أعقاب النجاحات الانتخابية التي حققها السبسي ونداء تونس في عام 2014، قدمت الحكومة الجديدة مشروع قانون “المصالحة” المثير للجدل والذي من شأنه أن يمنح العفو لرجالات الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي المتورطين في مزاعم فساد، باعتبار أنهم لم يستفيدوا شخصياً من ذلك[16]. وقوبل مشروع القانون بمقاومة من قبل المجتمع المدني، حيث يدعي النشطاء أنه سيقوض عمليات العدالة التي تجري في المحاكم ومن خلال لجنة الحقيقة والكرامة المكلفة بدراسة الجرائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ارتكبت منذ عام 1956. كما ان مشروع القانون صُمم لمكافأة الأفراد الأقوياء المرتبطين بنظام بن علي الذي كان يدعم حركة نداء تونس، وكان من الممكن أن يتأثر سلباً بالعمليات القضائية والمصالحة الجارية. وفي نهاية المطاف تمت الموافقة على إصدار القانون في سبتمبر 2017.
ويواجه أبرز خصوم السبسي السياسيين اليوم وهو رئيس حكومته يوسف الشاهد والذي كان منتميا الى حركة نداء تونس التي يتزعمها السبسي نفسه، يواجه انتقادات من بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي باستغلال سلطته وحظوته الديبلوماسية في تكوين حزبه الجديد “تحيا تونس”. ويوصف على انه رجل اصلاحي يحظى بقبول من القوى العظمى التي لديها حضور وتدخل في تونس كالولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الاوروبي ودول عربية.
الا ان التحدي هذا العام يكمن في طريقة استمالة الناخب التونسي واقناعه ببرامج انتخابية في ظل تراجع كبير لثقة التونسيين بالسياسيين والبرامج السياسية، ويبقى على الارجح ان من سيكون اكثر واقعية ويطرح برنامجا اقتصاديا واجتماعيا ممكن التطبيق ويستهدف خصوصا تقليص ظاهرة الغلاء وفتح فرص للتوظيف هو من سيحوز على اهتمام الناخب سواء عبر التسويق لنفسه عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي ستبقى الوسيلة الاكثر تأثيرا والاسرع في الوصول الى المواطن التونسي أو عبر الاعلام التقليدي او الفعاليات المباشرة.
المصدر : مركز دراسات الخليج العربي “CSR“
[1] أنظر سبر الاراء لـمؤسسة إمرود كونستلتينغ، تراجع كبير في شعبية السبسي، والشاهد يستفيد، الترا تونس، 28 سبتمبر 2018، https://ultratunisia.ultrasawt.com/%D8%A5%D9%85%D8%B1%D9%88%D8%AF-
[2] أنظر البيان الصحفي لوزارة المالية الامريكية حول ضمان قرض لتونس 2016، https://www.treasury.gov/press-center/press-releases/Pages/jl0535.aspx
[3] أنظر تقرير مجلة حقائق التونسية، سبتمبر 2018، https://www.hakaekonline.com/article/95455/%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%BA%D8%A7%D9%8A%D8%A9-
[4] “U.S. Government Assistance to Tunisia,” U.S. Department of State, July 20, 2012, http://www.state.gov/s/d/met/releases/factsheets/2012/195583.htm.
[5] Between Interference and Assistance: The Politics of International Support in Egypt, Tunisia, and Libya C o n v e n e d a n d Au t h o r e d by: Salman Shaikh and Shadi Hamid NOVEMBER 2012 at Brookings Joint Publication by the Project on U.S. Relations with the Islamic World and the Brookings Doha Center, November 2012, https://www.brookings.edu/wp-content/uploads/2016/06/BDCweb.pdf
[6] Between Interference and Assistance: المرجع نفسه
[7] Amina el abed, The Making of Tunisian Foreign Policy, Yale University, May 2018, https://yaleglobal.yale.edu/content/making-tunisian-foreign-policy
[8] Amina el abed, المرجع نفسه
[9] Amina el abed, المرجع نفسه
[10] Laura-Theresa Krüger et Edmund Ratka, The Perception of European Policies in Tunisia after the Arab Spring, “A new response to a changing neighbourhood”?, Dans L’Europe en Formation 2014/1 (n° 371), pages 9 à 25, https://www.cairn.info/revue-l-europe-en-formation-2014-1-page-9.htm
Laura-Theresa Krüger et Edmund Ratka, المرجع نفسه
[11] Laura-Theresa Krüger et Edmund Ratka,المرجع نفسه
[12] Laura-Theresa Krüger et Edmund Ratka, المرجع نفسه
[13] Tunisia Country Report: Tunisia Year: 2018 ,Published on Freedom House https://freedomhouse.org/report/freedom-world/2018/tunisia
[14] Tunisia Country Report: Tunisia Year: المرجع نفسه
[15] Tunisia Country Report: Tunisia Year: 2018 ,Published on Freedom House https://freedomhouse.org/report/freedom-world/2018/tunisia
[16] Tunisia Country Report: Tunisia Year: 2018 ,مرجع سابق