بسم الله الرحمان الرحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بمناسبة قرب مرور الذكرى الثانية على تأسيس المركز، يسعدني أن أهديكم خالص التحيات أخواتي واخواني من جمهور الباحثين والمثقفين وطالبي العلم والمتابعين الأوفياء لإصدارات المركز وتقاريره، أملاً أن نكون قد حققنا إضافة في مجال تعزيز البحث العلمي في الكويت والخليج والعالم العربي.
ان العالم الذي عرفناه قبل 2020 لن يكون العالم نفسه في 2021 تزامنا مع مرحلة ما بعد أضخم جائحة على الاطلاق تمر على الإنسانية منذ 100 عام، حيث أن تحولات كبرى بصدد التشكل وتنكشف معالمها العام المقبل بعد انقشاع غيمة زلزال عالمي خلفه وباء كوني لم تسبق لشعوب الأرض أن شهدت مثله في التاريخ المعاصر. فقد غيّر فيروس (كورونا) لا يرى بالعين المجردة أغلب توازنات العالم ومن المرجح أيضاً أن يغيّر لاحقاً حتى خارطته السياسية والديموغرافية ويعيد تداخل وتشابك المصالح على أسس جديدة بعد بداية انهيار وشيك لأسس تشكل العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فجائحة فيروس كورونا التي على الأرجح أن تخلّف أثاراً تدميرية أعمق وأكثر ضرراً من آثار دمار الحرب العالمية الثانية ستغيّر على المدى المتوسط بوصلة مصادر الثروة في العالم في انذار وشيك لصراع متوقع على توزيع عادل للثروات المتجددة المتمثلة في الطاقة والماء والغذاء وأسرار المعرفة والتكنولوجيا. وقد لا تنحصر مطالب العدل في توزيع الثروات بل قد تتعداها الى مطالب تحقيق العدل والمساواة أمام القانون، وهي تطلعات باتت تكتسي أهمية أكثر من قبل خاصة بعد زيادة وعي الأفراد بحقوقهم وواجباتهم ورغبتهم الملحة في العيش في نظام عالمي أكثر عدلاً.
ان النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية وسقوط الاتحاد السوفياتي، بصدد التلاشي تدريجياً مع زيادة نمو النفوذ الصيني والروسي والآسيوي في العالم مع رصد صعود بعض القوى العربية الطامحة أيضاً لكسب مكانة في النفوذ العالمي.
ان شعوب الخليج على موعد مع فرص ازدهار كبرى بشرط استمرار التعاون المشترك بين دول المنطقة والقوى الإقليمية والعالمية، لكن كل شبح لاندلاع صراع في الخليج قد يأخر تحقق أهداف التنمية. وتبقى التحديات منحصرة أولاً في سباق الزعامة، وثانياً في التنافس المحموم على امتلاك سلاح ردع من أجل كسب التفوق.
ان كل تأخر في حل الأزمة الخليجية يمثل عقاباً جماعياً لتطلعات شعوب المنطقة في فضاء ازدهار مستقر وآمن في المستقبل، بل يغرس على العكس بذور الانشقاقات التي قد تمتد الى المجتمعات الخليجية المتلاحمة رغم تنوعها الطائفي والقبلي.
ان السباق المحموم على التفوق في التسلح يوازيه في الوقت نفسه تنافس على تحقيق نهضة في العلم والمعرفة والذي يشتدّ بين قوى إقليمية كبرى في مقدمتها إيران ودول خليجية وإسرائيل وتركيا ومصر، والفائز في هذا التنافس قد يفرض شروطه المقبلة على الاستقرار والتحالفات وتوزع المصالح الإقليمية.
ان تحسّن مناخ السلام في الشرق الأوسط قد يكون محفزاً لتنمية المصالح، لكن لا يجب أن يكون عائقاً أمام تقدم المفاوضات لصالح تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في دولة مستقلّة وفق الحدود المتفق عليها في عام 1967 مع عودة اللاجئين. نحن نأمل أن يسهم أي اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل لوقف حقيقي لتهويد القدس وتمدد رقعة الاستيطان والتهام ما بقي من الأراضي المحتلة.
وفي حين تزيد المخاوف من اضطرابات قد تشهدها دول جوار الخليج خاصة العراق ولبنان واليمن، تزيد بشدة الحاجة الى التعاون الإقليمي وخاصة الخليجي-الخليجي لمد يد العون الى الجيران من أجل النهضة خاصة في دول مثل العراق التي تمتلك مقومات القدرة على تحقيق تنمية بشرط توفر علاقات جوار جيدة وعدم التدخل الخارجي في سيادتها مع ضرورة وجود سياسات وطنية تمكن الشباب من فرص أكبر لاتخاذ القرار حسب معيار الكفاءة وتجاوز التقسيمات الفئوية والطائفية، والوصول الى إدارة ناجعة تطبق القانون وترسخ عناصر دولة المواطنة القائمة على أساس العدل والمساواة.
ان الرهان على التنمية بتمكين دور أكبر للمرأة في رفع التحديات المستقبلية وزيادة قناعة الرجل بتساوي قدرتهما على تحقيق التطلعات والنجاح سوياً في صنع تنمية المستقبل يعتبر في النهاية أفضل سبيل لتقدم الشعوب العربية والخليجية، وقد يشترط تحققه زيادة تمكين المرأة من حقوقها الاجتماعية والسياسية والثقافية والمدنية والاقتصادية، وهو مطلب ملح خاصة في الدول الخليجية.
ان بيئة الاستثمار والأعمال في أكثر من دولة عربية وخليجية تعيش أزمة خانقة على مستوى استمرارية البيروقراطية ومحدودية تحديث التشريعات وقيود التمويل، وهو ما يكبّل المبادرات الشبابية في ظل استمرار هيمنة واحتكار المؤسسات العائلية الكبرى على النشاط الاقتصادي في الدول العربية والخليجية.
وما يؤخر دور المؤسسات الصغرى والمتوسطة في انتاج الثروة والمساهمة بشكل أكبر في الناتج المحلي الإجمالي هو تقلص الضمانات وعدم ايمان الدول العربية بهذا النموذج الاقتصادي الذي يعتبر قاطرة القضاء على الفقر والتفاوت الاجتماعي خاصة في الدول محدودة الدخل.
على الحكومات أن تدرك أن شروط العقد الاجتماعي بين الشعوب والأنظمة قد تشهد بعض المطالبات بالتعديلات في مرحلة ما بعد الوباء. فنقاشات معالجة الغضب الشعبي من تردي الأوضاع الاجتماعية جراء أكبر إغلاق في التاريخ للاقتصادات والمصالح، قد يؤدي الى خيارات متضاربة بين القمع وزيادة انسلاخ المواطن عن الدولة والانتماء واختيار العنف، وبين خيارات الاحتواء وتقديم التنازلات وتمويل المتضررين وتحفيز خطة طوارئ وطنية اقتصادية واجتماعية تحث على التلاحم والتضامن المشترك بين الدولة والشركات والمجتمع المدني لإنقاذ الشعوب من آثار جائحة تتعدى أضرارها مخلفات الحرب العالمية الثانية على المستوى المادي والنفسي. لكن الرهان على الحلول الأمنية الردعية للاحتجاج الشعبي والاعتصامات قد تكون خاطئة لأنها ستشجع زيادة القيود على الحقوق والحريات وتزيد من سطوة الدولة وتكبيل حق المواطن في التعبير وتدفع الى مزيد من الكبت موفرة دوافع الانفجار الاجتماعي.
ان تداعيات كورونا كارثية على اقتصادات ومجتمعات العالم والدول العربية والخليجية وفاقمت معدلات البطالة والفقر، وهو ما دفع الى تسجيل احتجاجات شعبية قد تزيد وتيرتها مع توسع أضرار الجائحة التي لم تنتهي بعد والتي يتحمّل المواطن كلفتها بالدرجة الأولى. وفي حين عالجت بعض الحكومات الاحتجاجات بإطلاق سياسيات طوارئ اقتصادية لتمويل المتضررين وتقديم التسهيلات للشركات والأفراد المبادرين من أجل سرعة التعافي الجماعي من الوباء الكوني، هناك دول أخرى اختارت سياسات أمنية قمعية لاستيعاب تداعيات الوباء، وهوما قد ينذر بمزيد التصادم بين شعوب وأنظمتها ويدفع الى نظريات الفوضى والاعتصامات والاحتجاجات والهجرة غير الشرعية ومخاطر تسلل الإرهاب علاوة عن الفساد الإداري.
ان الجائحة كشفت ضعف الدور الاستشرافي للحكومات للأزمات والكوارث، فهناك بعض الدول أساءت معالجة الأزمات الداخلية التي تضخمت بسبب ضعف كفاءة الإدارة ومشاكل الفساد.
ان العديد من الدول العربية قد حُرمت شعوبها من عوائد مليارية ضخمة جراء ابتعاد استثمارات أجنبية مباشرة عن وجهتها وتفضيلها وجهات أخرى بسبب تغلغل الفساد ونقص الإصلاح الإداري. وهو ما يدفع لزيادة دراسة معوقات الاستثمار الأجنبي والداخلي. حيث تعيش بعض الدول العربية أزمة استثمار محلي خانقة بسبب اهتزاز ثقة المستثمر المحلي في بيئة الأعمال الداخلية وتذمره من البيروقراطية والفساد المستشري. وان نجحت بعض الدول في التقليص منه ماتزال دول أخرى تكافح من أجل الحد من انتشاره في مفاضل الدولة وفي ثقافة المواطن. وهو ما يدفع الى الاهتمام بتعزيز الدور الرقابي للبرلمانات من أجل الحد من تفشي ظاهرة الفساد في الدولة.
ان الحقبة المقبلة تشجع على الاهتمام بالرفاه النفسي للشعوب والتي قد تمنع ظواهر سلبية كالتطرف والعنف والإرهاب، حيث أن زيادة الدراسات والأبحاث والتدريب على الإيجابية النفسية قد تكون من أهم أولويات سياسات تعزيز المواطنة والوحدة الوطنية.
ان الوعي الشعبي في الدول العربية تطور ونضج بشكل قد تجاوز فهم السياسات الحكومية لأولويات شعوبها، ومثلت زيادة الوعي بالحقوق والحريات بظهور مطالب التخلص من وصاية النخب السياسية والاقتصادية والدينية في تقرير المصير، كما دفعت الى زيادة مطالب المشاركة في الحياة السياسية وزيادة التحرر الفكري ورفض القيود في ظل فوضى المعايير والأهداف. وهو ما يعزز ظهور التيارات الشعبوية والقومية وهو مسار عالمي في تطور نظريات تطور علم السياسة.
ان دول الخليج مقبلة على تغييرات كبرى بينها زيادة تقليص الاعتماد على النفط والمضي قدماً في تنويع الاقتصاد بالرهان على التكنولوجيات الحديثة، الا أن البنى التحتية مُهمّة لإنجاح هذا الانتقال فضلاً عن أهمية التعاون العربي-العربي وتبادل الخبرات.
♦♦♦♦♦♦
على الأرجح أن يشهد العالم توزيعاً جديدا للنفوذ العالمي في إشارة لتوقع عودة الحمائية التي تقودها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تزامناً مع ظهور التيارات القومية الوطنية التي تفرض مزيداً من الحدود والقيود أمام التجارة العالمية والدولية، وهو ما يدفع الى زيادة الاهتمام بتماسك مجلس التعاون لدول الخليج العربية كتكتل إقليمي قادر -بشرط توفر الانسجام في المعايير السياسية والقانونية- على فرض الخيارات وتجاوز التحديات لكن مع ترسيخ مبدأ الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية وأهمية تشارك دول الخليج لمعايير أساسية لعل أبرزها تعزز الحريات والمشاركة السياسية، حيث تؤثر مثل هذه المعايير المشتركة إيجاباً على أي توافق مستقبلي في الرؤى التنموية مع ضرورة اعطاء أهمية لمشاركة المجالس الوطنية الشعبية والمجالس التشريعية في الحلول المقترحة لدعم مسارات التكامل الخليجي-الخليجي والعربي-العربي. ومثل هذه التوافقات التي تشترط وجود دور أكبر للمجتمع المدني والمجالس الشعبية في تحديد مصير التكامل قد تكون أساس الحلول المستدامة للخلافات العربية-العربية والخليجية-الخليجية الآنية والمستقبلية. ولعل أبرز مثال عن الخلافات المعطّلة للتكامل تتلخص في تجارب الجامعة العربية واتحاد المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي.
كما من المرجح أن تصاحب التغيرات الكبرى الطارئة على الدول العربية ومنطقة الخليج أساساً الكثير من مطالب زيادة تحسين جودة الخدمات الصحية والتعليمية لكن على الأرجح أن تدفع موجة التحولات الآنية بزيادة المطالب الملحة والحيوية حول ضرورة تأهيل معايير جودة الطاقات البشرية العربية فضلاً عن الصناعات والخدمات لتتوافق مع المعايير العالمية المستقبلية للجودة، بحيث لن تستطيع الشركات أو المجموعات أو الأفراد المبادرين على الأرجح القدرة على التنافس بإقصاء معيار الجودة والابداع والتميز والابتكار. فعالم الغد قد يكون أكثر صرامة في اشتراط الجودة وقد تكون مساحته أقل استيعاباً لغير المهرة والهامشيين.
على الدول النفطية العربية حتى لو تحسنت أسعار النفط على المدى المتوسط أن تدرك جيداً التحديات والتحولات المقبلة خاصة على مستوى تراجع جاذبية وقيمة الطاقة الأحفورية كسلعة رئيسية لتتخلى عن مكانتها مع الوقت لفائدة صعود قيمة الخدمات الالكترونية والذكاء العلمي والإنتاج الغذائي والصحي.
ان زيادة اعطاء الأولية للتعويل على الطاقة المتجددة وتخلي منتجي السيارات في العالم خلال عقدين أو ثلاثة بشكل كامل عن استهلاك البنزين سيسبب تقلصاً في إيرادات النفط بشكل أكبر على المدى البعيد، كما يشكل مساراً مقلقاً للدول المدمنة بشكل مفرط على إيرادات المحروقات. في الوقت نفسه قد تكون هذه التحولات المتوقعة في سوق الطاقة حافزا لإحداث وعي جديد وخلق ثقافة تستجيب للمتغيرات والتحديات بسواعد شباب متعلم ومنفتح ومنسجم مع ثقافة التسامح ورافض للتطرف ومقبل على الحياة بكل إيجابية وروح التنافس التي قد تزيد من صعود طاقات وابتكارات الشباب العربي نحو العالمية، حيث للأسف تجد أغلب المواهب العربية التمكين والثناء والتقدير وفرص التطور مع الاعتراف بهم في دول أجنبية على عكس الدول العربية التي تشهد نزيف خبراتها بهجرة العقول منها، وهو ما شجع على زيادة ظاهرة هجرة الأدمغة من دولنا العربية والخليجية وخاصة الدول محدودة الدخل.
وفي ظل تمسك بعض الأنظمة العربية بالنظم التقليدية البالية في تنظيم حياة الأفراد على أساس عقد اجتماعي تقصي بموجبه دول كثيرة مشاركة أوسع للشباب في مراكز القرار والفكر، سيستمر العالم العربي على الأرجح في تسجيل نزيف الهجرة غير الشرعية لشبابه نحو المجهول في ظل محدودية الفرص المتاحة وعدم الانصات لهم والتهميش وسيطرة النخب المستمرة على تقرير المصير.
وفي ظل خسارة كبرى للدول العربية لعلمائها ونخبها، يتراجع تقدم بعض البلدان في مؤشر التنافسية مع الدول الصاعدة ويتعثر مسار الحلول في ظل تراجع مراكز الفكر والبحث وضعف سياسات التشجيع على الدراسات العلمية والابتكار، الأمر الذي سيؤثر سلباً على التنمية ومحدودية تحقيق الاكتفاء الذاتي ليستمر بذلك التعويل على منوال التوصيات والحلول الخارجية ويتعدى ذلك لاحقاً الى الاعتماد على الديون الخارجية ما سيعود سلباً على محدودية فرص الازدهار المتاحة لأجيال المستقبل. حيث أن ضعف ضمانات مصادر الثروة المستقبلية وتردي مقومات البيئة والمناخ كل تحديات مخيفة لصناع قرار الغد.
♦♦♦♦♦♦
ان العالم العربي يعيش أزمة شفافية في العمل الحكومي والنيابي ومحدودية النفاذ الى المعلومة ما يشجع نظريات المؤامرة والمغالطة ويزيد في مخاطر تأثير الاشاعة على تظليل الرأي العام بسبب نقص منابر الفكر المحايد والموضوعية والموثوقة.
وعلى صعيد متصل، تتصاعد أزمة ثقة الشعوب العربية والخليجية في الحكومات والبرلمانات والنخب السياسية والاقتصادية، وينعكس ذلك سلباً على علاقة المواطن بالدولة خاصة على مستوى تعزيز الانتماء، حيث أن المسافة بين الدولة والمواطن تسير في اتجاه عكسي لتتسع الهوة بين الفرد والحكومة، اذ أن التطلعات الشعبية في الكثير من الدول لا تجد صداها في أعمال وأهداف الحكومة، وهو ما يزيد من التذمر الشعبي والاحساس بعدم التمكين والعجز عن التغيير الإيجابي. ما يدفع البعض للجوء الى الاندفاع الى الظواهر السلبية.
ان المواطن العربي في كل مكان يعيش أزمة هوية وانتماء بسبب زيادة التعرض للتأثيرات السلبية التي يفرضها استهلاك ثقافة العولمة بزيادة الإدمان على العالم الافتراضي والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من أجل البحث عن المعرفة أو تشكل المعارف تدريجياً حول قضايا داخلية وخارجية، وبات الفكر العربي نتيجة الإدمان على استهلاك المعلومات الافتراضية مشوشاً أكثر من أي وقت ما وهو ما يستدعي دراسات معمقة لاحتواء الشباب ودعم ثقافة الانتماء والتمكين ومحاولة تعزيز التراث وتحسين صورته لدى الشباب من اجل التوازن بين الحداثة والأصالة.
لقد بات المواطن العربي عرضة الى فرضيات التهميش والاقصاء والاستقطاب والولاءات المضادة، كما يزيد عدم اهتمام الدولة بتنمية قيم المواطن وفكره وتعزيز انتمائه وحرياته وحقوقه من ظهور أزمات أخرى أبرزها زيادة سلبية الفرد وانعزاله وصولاً الى تطرفه أو اختياره أساليب العنف لإرهاب المجتمع والدولة. ومثل هذه المخاوف مستمرة في ظل تصاعد مؤشرات الاكتئاب الحاد بين أفراد المجتمع بسبب الإحساس بعدم التمكين وعدم استيعاب الدولة لكل أفرادها وعدم تحقيق مقومات العدل الاجتماعي والمساواة أمام القانون.
لذلك فان خطاب الوسطية الحاث على الوحدة الوطنية واستيعاب كل أفراد المجتمع على اختلافهم يكتسي أهمية اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل تصاعد العصبيات الجهوية والقبلية والطائفية والفئوية. الى ذلك بات من الضروري جداً ايلاء أهمية قصوى لتصحيح الوعي والمراجعة الفكرية من أجل تصحيح المفاهيم الدينية خاصة في ظل زيادة رصد ظاهرة العزوف الشبابي عن التدين بدعوى التحرر من كل القيود. حيث أن التحرر المطلق قد يقود الى الفوضى المجتمعية والفكرية. وبذلك فان المجتمعات بحاجة أكثر الى دعم التوعية بأهمية الحرية والمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والانتماء الإيجابي في ظل دولة جامعة لا تعتمد الاقصاء وتسعى لتمكين كل أفرادها من سبل المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتعزيز فرص خلق الثروات والتنمية.
الا أن الرهان الأكبر للوصول الى مثل هذه الأهداف الطموحة هو الرهان على احداث ثورة في التعليم العربي والخليجي وربطه بتنمية المناهج المحفزة للتفكير والابتكار والابداع والايجابية أكثر من المناهج الجامدة الحاثة على التلقين والاقتباس واستنساخ الأفكار.
ان مسيرة انفتاح الشعوب متواصلة على النهضة الفكرية والثقافية التي يشهدها العالم، لكن هناك نظرة مقلقة لتأثير ظواهر غربية بصدد الترويج لها ولعل أبرزها الثورة ضد الأنظمة بدعوى التحرر من كل القيود والتأسيس تدريجياً لديكتاتورية الشعوب بدون تنظيم، حيث قد تكون مثل هذه الأفكار التي انطلقت في الولايات المتحدة في تحدي الأنظمة والرغبة في تجديد العقد الاجتماعي وتجديد القوانين بما ينسجم مع مسارات الفكر الحالية قد يطلق العنان في بعض الدول العربية الى رفض السائد كلياً والدعوة الى فوضى عارمة قد تصيب العالم العربي بالشلل. ولاستباق مثل هذه المخاوف، بات من المهم على الحكومات والمجتمع المدني تعزيز خطابات التوازن بين ضرورة الأمن والحفاظ على النظام وأهمية تمكين الشباب خاصة من فرص التغيير الإيجابي وممارسة الديمقراطية البناءة من أجل تنمية عادلة تمثل ارثاً إيجابيا لأجيال المستقبل.
بقلم الأستاذ صالح عاشور، رئيس مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث CSRGULF