الكويت، 18 يناير 2021 (csrgulf): لطالما حرص الرؤساء الديمقراطيون منذ وصولهم الى السلطة في البيت الأبيض في واشنطن الى محاولة تنفيذ سياسات ليبرالية وزيادة دعم نشر ثقافة الديمقراطية في العالم، الا أن هذا المسار التقليدي قد يشهد انقلاباً على العرف المتوارث تدفع اليه تغير أولويات البيت الأبيض التي ستركز على الأرجح على ترميم الديمقراطية الداخلية وردع مخاطر انقسامات حقيقية وتمرد على القانون والمؤسسات الدستورية في الداخل الأمريكي.
وحسب رصد لتقييم المخاطر أعده مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (csrgulf) فان هذه الأحداث التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية بين 2020 وبداية 2021 من شأنها أن تقلص تدريجياً من رصيدها التاريخي في الممارسة الديمقراطية وتشوّه سمعتها كمنارة لنشر الديمقراطية في العالم ما يجعلها مثالاً سيئاً يحتذى به، وقد تفقد بذلك توصياتها لدعم الديمقراطية في العالم قيمتها في حال زيادة انفلات الوضع الأمني وزيادة التصادم بين قوات النظام والشعب المنقسم مع مخاوف لانجرار أميركا للقمع الداخلي والتي لطالما كانت بين أكثر المتقدين له عالمياً.
ولم تشهد الولايات المتحدة منذ ارسائها لدستورها محاولات تمرد شعبي على المؤسسات الدستورية وعلى القانون كما شهدته في 2020 وبداية 2021 مدفوعة بأحداث تصاعد الكراهية والتمييز العنصري المتبادل والتي دفعت اليها أولاً مجموعات شعبية من السود احتجوا صيف العام الماضي على مقتل مواطن أسود على يد شرطة من البيض وانتهت الى أعمال شغب، ولاحقا أشعلت خطابات ترامب بعد خسارته مجموعات اليمين المتعصبة لتفوق العرق الأبيض الذين اجتاحوا مبنى “الكابيتول” معقل الديمقراطية (الكونغرس) في رسالة غضب دفعت اليها هواجس اختطاف أمريكا من الأعراق المختلفة مقابل توقع تحول شريحة البيض الأمريكيين من الأغلبية الى أقلية بعد نحو عقدين فقط.
الاحتجاجات التي قادها السود أو البيض في أكثر من مناسبة في الأشهر الأخيرة رفعت شعارات الكراهية والتمرد على الشرطة والقانون والمؤسسات، ومثلت مؤشرات تهديد حقيقية للوحدة بين مكونات المجتمع وبين الولايات الأمريكية، ما يدفع الى زيادة إعادة النظر في إجراءات قد تقيد الحريات لردع انتشار سلوك الفوضى والشغب لمعارضة سياسات الحكومة، ولعل آخر بوادرها ما بادرت به شركات منصات التواصل الاجتماعي من اغلاق حسابات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (تويتر وتيك توك) وحسابات لشخصيات أخرى بدعوى التحريض عل العنف والكراهية وهو ما ينظر اليه البعض بالخشية من زيادة فرض قيود على حريات التعبير في العالم الافتراضي. ومثل هذا الاجراء غير المسبوق قد يضر أيضا بسجل أمريكا في مجال الحريات التي لا تؤمن الأدبيات الأمريكية أصلاً بوجود سقف لها، وما قامت به منصات التواصل الأمريكية اعتبرته بعض المنظمات الحقوقية تدخلاً وتقييدا لحريات التعبير مهما كان مضمونها، ما يجعل أمريكا في الوقت نفسه مهما كانت المبررات تفقد المكانة الأولى في دعم الحقوق والحريات في العالم.
وقد تقدم أميركا في المرحلة المقبلة أسوأ نموذج للديمقراطية غير المسؤولة والفوضوية التي تدعمها شخصيات تصل الى درجة رئيس الولايات المتحدة بالإشارة الى دونالد ترامب المهدد بالمحاكمة للتحريض على الفوضى والكراهية. وبالتالي قد تصدر أميركا نموذج الفوضى للعالم رغم وعود الرئيس الجديد بمحاولة علاج ما أفسده ترامب. وقد تتقلص أيضاً تدخلات واشنطن المباشرة في شؤون الدول خاصة فيما يتعلق بمواضيع الحقوق والحريات الى حين علاج الصدع الذي ضرب صرح الديمقراطية الأمريكية الداخلية حيث تفقد رمزيتها كمنصة للعالم الحر.
وتزيد المخاوف من أن بداية عهد بايدن التي تتصادف مع مرحلة غليان شديد في عدة دول حول العالم بسبب انتقادات شعبية لسياسات الحكومات في ادارة أزمة كورونا واتهامات بتحميل الشعوب العبء الأكبر للتكلفة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة دون آفاق تعويض عن الأضرار التي لحقت بالطبقات الضعيفة، وهو ما قد يفجر غضباً عارماً قد يتحول الى احتجاجات وأعمال شغب تجتاح دول عبر المعمورة ولعل أبرز منطقة مرشحة للاحتجاجات والفوضى هي منطقة العالم العربي وخاصة الدول الفقيرة ومحدودة الدخل والتي يعاني مواطنوها من تقلص فرص التغيير الإيجابي وسط قفزة معدلات الفقر والبطالة والانقطاع المبكر عن التعليم ومؤشرات التضخم. وتواجه حكومات عربية وغير عربية مخاطر حقيقية لاندلاع فوضى قد تهدم الاستقرار المهدد بأزمة تمويل ضخمة غير مسبوقة لمتطلبات المواطنين، حيث أن حكومات كثيرة ماتزال تكافح جائحة كورونا وتضطر لاستمرار الاغلاق الشامل لأكثر من عام، الأمر الذي يعمق انهيار مؤشرات التنمية وشبح الإفلاس، حيث قفزت مديونات بعض الدول الى حدود 90 في المئة.
ولعل الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن يسير بنفس مسار الرئيس الأسبق باراك أوباما خاصة على مستوى التدخل الانتقائي في دعم سياسات الحكومات من خلال التأثير التي تملكه واشنطن على المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو ما يزيد من نظرة مقلقة حول سياسات أمريكا في التعامل مع الدول العربية على أساس شروط تفاوض جديدة، وقد تكون تدخلات أمريكا لدعم الاستقرار في عدد من الدول غير ناجعة بالنظر لسياسة دعم جل الأطراف خاصة التي تملك شعبية في دولها، حيث قد لا تعمد سياسات بايدن اذا استلهم منهج أوباما الى انتهاج الاقصاء المباشر لأطراف سياسية صالح أطراف أخرى، حيث تخيير دائما الإدارة الديمقراطية طريقة التفاوض مع جل الأطراف والتي ما تؤدي في أغلب الأحيان لإطالة الأزمة دون حسمها. وقد لا تعول دول عربية كبيرة على الحسم الأمريكي في المرحلة المقبلة خاصة دول الخليج بالنظر لعودة سياسة التفاوض الشامل وفرض سياسة ازدواجية التعامل مع الاصدقاء والأعداء وفق تغير المصالح.
وفي ظل توقع احتجاجات تدفع اليها ظروف اقتصادية واجتماعية خاصة في دول العالم التي ترزح نسبة كبيرة منها تحت ضغوط التعافي من تداعيات ثقيلة لجائحة، تزيد مخاوف اندلاع الفوضى وتسلل الارهاب اليها في ظل عجز متوقع لبعض الحكومات عن الإيفاء بمطالب جزء كبير من الشرائح الشعبية، وهو ما يزيد من الخشية من تصادم شعبي مع الأنظمة، وهو ما تتوقعه تقارير المخابرات الامريكية مسبقاً، الا أن الخوف قد يتمثل في احتمال معالجة أمريكية للأزمات العربية بنفس طريقة تدخل إدارة أوباما في أضخم أزمات العالم العربي في التاريخ الحديث والمعروفة بـ”الربيع العربي” في 2011.
2021 © مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (CSRGULF)